حياء في القبور ، وأموات في القصور .. من مقالات المصري : أبو كريشة

بتصرُّف

لا تصدق كل الأمطار المنهمرة عليك من إحصاءات واستطلاعات للرأي واستبيانات وأبحاث لأنها في الغالب "شغل موظفين" وتسديد خانات واستيفاء أوراق "وسلق بيض" وكلها أجريت علي طريقة "مشي حالك".. وبنفس أسلوب المنجم الذي طلب منه الملك عد النجوم فنظر في الفضاء ملياً ثم قال: إنها ألف نجم.. فقال الملك: إنك تكذب فرد المنجم: إذا لم تكن تصدقني فلتعدها يا مولاي !!

وبنفس طريقة الباحث الذي قص جناح الذبابة .. وقال لها : طيري فطارت فكتب إن الذبابة تستطيع الطيران بجناح واحد .. ثم قص الجناح الآخر وقال لها طيري فلم تطر.. فكتب أن الذبابة عندما تفقد جناحيها الاثنين تصبح صماء !!
ولا تصدق الأمطار المنهمرة عليك من التحليلات عبر الأرض والفضاء والصحف فالمحللون لايعرفون أكثر مما تعرف أنت والفرق بينك وبينهم أنهم امتلكوا مساحة علي الهواء أو علي الورق لم يمكنك أحد منها فصاروا متكلمين وأنت سامع وصاروا كتاباً وأنت قاريء .. وربما تعرف أنت أكثر لكنك مثل كل الناس في أمتي يؤمنون بأن كل ما يقال عبر الفضاء أو الصحافة وحي يوحي لايأتيه الباطل من أي جهة.
إن الذين يحللون وينهالون عليك بالأرقام والاحصاءات والاستطلاعات والمعلومات مطمئنون إلي أنك لن تعد النجوم بعدهم ولن تراجع الأرقام التي ذكروها خاصة إذا قالوا إنها إحصاءات واستبيانات أجريت في أمريكا أو أوروبا.. فأنت حينئذ لن تجرؤ علي تكذيب ما سمعت أو قرأت لأنك مثلي ومثل الجميع مريض بعقدة الخواجة حتي في الأفكار والأبحاث التي يقال إنها علمية !!
أما أنا فأحاول أن أعالج نفسي من العقدة بالشك والارتياب وإعادة النظر والتأمل وإقامة جدار عازل بين عقلي وما يلقي إلي من أفكار وآراء ومعلومات.. وعليك إذا أردت النجاة أن تحذو حذوي أو تصفني بأنني علي خطأ وستجدني إن شاء الله من المقتنعين ولا أعصي لك أمراً.
لدي شعور بأننا نحن المهمشين والفقراء وذوي الأيدي الممدودة لسؤال اللئيم مستهدفون حتي في البحث الذي يقال إنه علمي وفي الاستطلاعات والإحصاءات والاستبيانات.. دائماً نحن مذنبون وملومون وعندنا كل الموبقات وفينا كل العبر.. واضرب لك الأمثال لعلك تتفكر وتتذكر.. فإذا سلقوا بحثاً عن العنف الأسري أو المجتمعي يقولون إن ضرب الأزواج للزوجات يتضاعف مائة مرة لدي الطبقات المتدنية اقتصادياً وسكان العشوائيات والمقابر.. وأن اثنين وعشرين في المائة من الأسر تعولها امرأة وكلها في العشوائيات والأحياء الشعبية والناس "البلدي".. وكلما هبطنا درجة في السلم الموسيقي.. أقصد الاجتماعي والاقتصادي يزداد العنف وقلة الأدب ويزداد الانحراف الأخلاقي والفواحش وتتضاعف حالات الانتحار.
"وخذ عندك كمان" أن الزواج العرفي أو السري انتشر بين شبابنا كالنار في الهشيم وأن معظم أو كل أطرافه منا نحن الفقراء والمهمشين وسكان المقابر والعشوائيات !! .. يعني باختصار وبلا لف ولا دوران هناك منهج ومبدأ ثابت لدي أسيادنا الأثرياء وزبدة المجتمع وكريمة الوطن بتجريدنا من المال والجمال والأخلاق أيضاً ونتائج الأبحاث لا تكذب.. وإذا لم تكن تصدق فلتعد الغنم أو النجوم.. فنحن بالإضافة إلي فقرنا وتهميشنا وعذابنا الاقتصادي.. معدومو الضمير والأخلاق والإيمان.. نحن قتلة ومجرمون ولصوص وزناة.. نضرب زوجاتنا أو تضربنا زوجاتنا.. ونضرب أبناءنا أو يضربوننا هم.. لكن الأبحاث لم تذكر أداة الضرب ولم تقل إن أكثر الأدوات استخداماً في الضرب هي "الجزمة" لأن الذين يجرون هذه الأبحاث يعلمون أن معظمنا حفاة !!
لا أكاد أسمع أو أقرأ بحثاً عن ظواهر سلبية في المجتمع إلا وأجد أنه يؤكد أن الظاهرة تتفاقم لدينا نحن الفقراء وسكان العشوائيات.. ولم أسمع أو أقرأ بحثاً حول الظواهر السلبية الخطيرة في عالم الأسياد لا أقرأ أو أسمع بحثاً عن انتشار تبادل الزوجات وعن الخيانات الزوجية الفاجعة وعن أولاد الحرام الذين يصدرهم الأسياد إلي شوارعنا وعن إدمان البودرة والمخدرات الباهظة التكاليف وعن تقاليع الأفراح وحفلات الزفاف وأعياد ميلاد الكلاب والقطط وعن الشذوذ الجنسي الحريمي والرجالي وعن تعدد العشيقات للزوج وتعدد العشاق للزوجة ، بينما يلام الفقراء علي تعدد الزوجات وكثرة الإنجاب بالحلال !!
لم تجرؤ الأبحاث علي القول إن حالات الطلاق قبل انقضاء السنة الأولي من الزواج تتضاعف عشرات المرات لدي الأسياد عنها بين الفقراء والمهمشين.. ولم تقل الأبحاث إن الخلع لدي الأسياد أضعافه لدينا نحن الفقراء وأنه صار وسيلة للمشي علي حل الشعر.
لم تقل الأبحاث إن زبائن العيادات النفسية من الأسياد أضعاف زبائنها منا نحن الفقراء.. بل إن الفقراء وأنا أولهم لا نعترف بما يسمي الطب النفسي ونري أنه نوع من الدجل الشرعي المعترف به رسمياً ونحن نؤمن بأن علاجنا النفسي في المسجد وفي القرآن وفي الإيمان بقضائنا وقدرنا وفي الصبر علي ما نحن فيه من بلاء وفي الصمود والمقاومة.. نحن نؤمن بأن المريض النفسي هو الذي أعرض عن ذكر الله وشغلته أمواله وأهله ، ونري أن القرءان شخص المرض النفسي في ءاية جامعة مانعة في سورة طه تقول: "فإما يأتينكم مني هدًى فمن تبع هداي فلا يضل ولا يشقي ، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكًا ونحشره يوم القيامة أعمي" .
وليس هناك مرض نفسي أشد وطأة من الضلال والشقاء .. فهذا ما يسميه المدعو الطب النفسي الاكتئاب والإحباط والهلاوس والوساوس والسوداوية والقلق والتوتر.. وهذه كلها أمراض الأسياد وكريمة المجتمع.
الأسياد لا يكفيهم إفقارنا ووصفنا بمحدودي الدخل وغير القادرين.. بل يسخرون البحث العلمي المزعوم من أجل تجريدنا من قيمنا وأخلاقنا وتماسكنا الأسري.. وهز ثقتنا بأنفسنا.. فسكان العشوائيات والناس "البلدي" إرهابيون ومتطرفون ولصوص ومجرمون وأولاد حرام.. وإنني علي استعداد أن أقسم بأغلظ الأيمان أن الفقراء أكثر كرماً وأعظم أخلاقاً وقيماً.. ومن الغباء والحماقة أن ينظر أحدهم إلي سكني ومنطقتي التي أقيم فيها ثم يكتب في بحثه بلا وعي إنني رجل بلا قيم ولا أخلاق وأن أسرتي مفككة وأن أبنائي إرهابيون.. وينسي ذلك الأحمق أن اتساع القلوب وسعة الأخلاق أفضل من اتساع المكان وأبهة أثاثه.. وأن سكان القبور يستقبلون في قبورهم عشرات الضيوف من أبناء العم والخال.. وأن سكان القصور والفيلات يتخلصون من آبائهم وأمهاتهم ويلقون بهم في دور المسنين بينما يخصصون غرفاً وحمامات في قصورهم للكلاب والقطط.
إن القيم تتآكل والأخلاق تتراخي قبضتنا والضمائر تنام ويختلط الحابل بالنابل كلما ارتفعنا في السلم الاقتصادي والاجتماعي.. وتتحول حالات الزواج والصداقة والحب والعلاقات الإنسانية إلي صفقات.. ولكنني مع كل هذا أفرمل نفسي حتي لا أسقط في فخ التعميم والمطلق والقاعدة التي لا تقبل الاستثناء أو أبشر كل الفقراء بالجنة وكل الأغنياء بجهنم وبئس المصير فذلك من الحمق الذي أرفضه لغيري ولا ينبغي أن أقع فيه.. والتعميم في هذه الحالة يوقعني في تهمة الحقد الاجتماعي علي أساس انني فقير يحقد علي الأسياد.. إنني فقط أدعوك إلي الحذر حتي من سطوري هذه التي تقرأها.. أحذرك من إدمان الوجبات السريعة والجاهزة في الأفكار والمعلومات والاستطلاعات.. فقد أفسدتنا هذه الوجبات وينبغي أن نعود إلي المطبخ.. نعود إلي عقولنا لنطهر أفكارنا بأيدينا.. ينبغي أن نشتري الأفكار والمعلومات والأرقام من السوق.. ونعيد نحن طبخها في عقولنا وقلوبنا حتي تكون صحية ونستطعمها أكثر.. ولا تظن للحظة أن من يكتب أو يتحدث عبر الهواء يعلمك ما تجهل.. ولكن تعامل معه علي أنه يذكرك بما نسيت أو يحفزك علي رفض ما يقول.. ولا تقبل شيئاً علي علاته من وزير أو مسئول أو مثقف أو فنان أو صحفي.
إن المحللين الذين يطلق لهم العنان علي الهواء الحديث عن قضايا الأمة لا يضيفون لمعلوماتك جديداً فهم يتكلمون بأجر... وهناك من يتصل بهم علي الهواء ويتكلم أفضل وأصدق منهم مجاناً وبلا مقابل.. ورسائل الماجستير والدكتوراه المليئة بالبيانات والأرقام معظمها بيض تم سلقه علي عجل !! والأسهل دائماً هو الحديث عن الفقراء وسلبياتهم وانهيارهم الاجتماعي لأن دم الفقراء والمهمشين وسكان العشوائيات مأمون الجانب.. بينما الحديث عن المصائب الاجتماعية والكوارث الأخلاقية لدي الأغنياء ورجال الأعمال الجدد محفوف بالمخاطر ومشي علي الأشواك.. ولأن الفقراء والمهمشين هم جل المجتمع وغالبيته فإن استهدافهم بهذه الصورة السيئة والظلمة هو استهداف للوطن كله بالباطل..
إن الربط بين المستوي الاقتصادي والوضع الاجتماعي أو الأخلاقي أو القيمي ربط تعسفي سخيف لا محل له من الإعراب.. وليس صحيحاً أبداً أن تدني المستوي الاقتصادي دليل علي الانهيار القيمي والأخلاقي وأن الغني والثراء دليل علي التحضر وارتفاع المستوي الثقافي والرقي القيمي والأخلاقي.. وأخشي أن أقول إن العكس هو الصحيح حتي لا أتهم بالتعميم الذي أرفضه.. لكني أحذرك من الانسياق وراء أبحاثهم وأرقامهم التي تتعمد سحق الفقراء والهتاف للأغنياء.. فقصورهم قد تكون أجمل وأحلي وأفخم من قبورنا لكن العبرة عندي بسكان قصورهم وسكان قبورنا.
فياما في القصور أموات.. وفي القبور أحياء !!

» قدرات الجيش المصري